مشروع الثالثة والعشرون - (16) صواف
صواف
صادفتُ صواف صدفة، فأعاد لي جزءًا مما أتصاف به...
بكم تكون الحرية؟ وكم بلغتَ أنت من الحرية؟
النصف الأول من السؤال كنت أظنه يساوي المال أو التحرر من قيود الأشخاص، والنصف الثاني لم أبلغه بالكامل، لكني دائمًا أسعى إليه.
الحرية... التي سعى لها العالم كله، ملايين من الأجيال تحت التراب، وملايين من الأجيال القادمة ستطالب بها، ولكن السيئ في الأمر أن الكثيرين قد ماتوا وهم يدافعون عن معانٍ مختلفة تحت اسم الحرية، وربما كثيرون قادمون سيقعون في الفخ ذاته، دون فهم أن الحرية تحمل العديد من المفاهيم.
الحرية كلمة لاقت الكثير من المعاني لغويًا واصطلاحيًا، لكن لا يوجد معنى ثابت لها في العالم كله؛ بين كونها حق كل إنسان طالما لا يضر غيره، أو ممارسته لما يريد دون إكراه، أو حتى كونها الانطلاق بلا قيد. لكن في النهاية، كل شعب دافع عن حريته من منظوره، وكل امرئ دافع عن حريته من وجهة نظره.
إن دلّ ذلك على شيء، فيدل على أن الحرية تعددت مفاهيمها بين الأخ وأخيه في البيت الواحد، وهذا لا يعني أن أحدًا أخطأ والآخر أصاب، بل يعني أننا جميعًا نسعى إلى أشياء عديدة تحت مسمى الحرية، وحتى طرقنا في النضال من أجلها تختلف.
إذًا، ما مفهوم الحرية الجوهري؟
بالطبع لا يوجد مفهوم حرية يؤمن به الجميع، لكن الحرية في قاموسي هي فعل الشيء الذي تمليه عليّ روحي، هي السلام النفسي الذي لا يتبع أي مادي، فقط البساطة والراحة.
لكن هل حقًا الجميع وُلد ليكون حرًا أم هناك من لم يستطيعوا أن يكونوا أحرارًا؟
في عالم مثل الذي نحيا فيه اليوم، أصبح البشر يشترون العبودية بحيلة من الرأسمالية، التي جعلت العالم كله يسعى إلى شراء أحدث الهواتف، حتى لو أنهم لا يفقهون شيئًا فيها، أحدث الأجهزة، وصراع دائم للوصول إلى كل جديد ونشره على مواقع التواصل الاجتماعي.
عالم توقف عن الاستمتاع بالحياة، بل أصبح عبدًا لما تمليه عليه الرأسمالية، وللآخرين الذين لا يهتمون لأمره من الأساس.
ضغط اجتماعي لفعل الأشياء بتماثل شديد، ففقد المرء تميزه، وما تراه ليس إلا نسخًا مكررة ماسخة لا تحمل نكهتها الخاصة.
أعترف أني أكره هذا العالم المليء بالمسوخ، المكررين، الذين لا يحملون بصمتهم الخاصة. ولذلك، أتجول دائمًا، أقرأ وأسافر، أحب أن أرى الجديد، المختلف، الذي يجعلني أكتشف جزءًا جديدًا من العالم الحقيقي غير المزور، العالم الذي يجعلني أكتشف جزءًا من ذاتي، ويجعلني أعرف أكثر عني.
الجميع يعيش، لكن أن تحيا، هذا هو النادر. وأنا قررت أن أحيا، وفي الحياة الحق حرية، ولذلك أنا حرة.
التاسع عشر من مارس لعام 2023
كنت أعود من طابا مع أحد الأصدقاء، حين صادفتُ صواف، الرجل الذي تخطى الخامسة والثلاثين من عمره، لكنه يحمل روح شاب عشريني وحماس طفل في الثامنة من عمره.
جاء صواف آخرَ الركاب في الحافلة الصغيرة التي تحملنا إلى القاهرة، بدلًا من فتاة كانت تتأفف من مكان جلوسها، لأنها لم تتفق على هذا المقعد من البداية.
جاء حاملًا حقيبة سوداء كبيرة أمام صدره، ولا يحمل أي حقائب أخرى.
بالتحدث معه قليلًا، علمنا أن هذه آلة موسيقية، وأنه سافر ليلًا كي يبتاعها من سيدة بدوية، وعاد في الميعاد الصباحي، ومن ثم حلّ الصمت.
لكن مع غروب الشمس والاستراحة، بدأ الحديث بين الجميع، ثم بدأ حديثي أنا وصديقي وصواف، الحديث الذي لم ينقطع حتى نهاية الطريق.
صواف... رجل ترك حياة الموظفين، ووهب نفسه للحرية؛ حرية الوقت، الاختيار، الحركة، وفعل ما يحب.
حرر نفسه من المسميات الوظيفية، المرتب الثابت، والحياة الروتينية. تزوج منذ عامين، وعلى الرغم من ذلك، ظل حرًا!
أعترف بأن تمرده على الواقع المألوف تمامًا هو ما أحب.
الاكتشاف، التحرر من الماديات التي تخنق المرء وتكبّله في عالم مليء بالكثير من القيود، هو حقًا ما أطمح إلى الوصول إليه في كل يوم.
تحول الصمت الذي كان يخيم على الحافلة إلى أصواتنا وضحكنا، نحن الثلاثة، كأننا أصدقاء منذ زمن طويل.
الموضوع الرئيسي كان الموسيقى، مشاركة التراكات المميزة، مَن الأجمل، مَن ترك الفن الحقيقي وذهب وراء التجارة.
الجري وراء العيش الرغيد الذي يدمر الفن، جميعنا يعرف ذلك، حتى الذين فعلوه، لكن في النهاية، الحياة المزيفة تكسب عند الجميع إلا من رحم ربي.
لا نستطيع أن نلوم أحدًا، لكن علينا أن نعترف أننا أصبحنا عبيدًا...
صواف لم يَخَف أن يترك عمله، واعتمد على العمل بشكل عشوائي، ما دام يملك حرية الوقت والاختيار، فلا شيء يهم.
لم يتوقف عن التأمل أو سماع أصوات الطبيعة من حوله، لم يَخَف أن يكون مع شريكة تعيش معه، لم ينتظر أن يصبح مليارديرًا حتى يعيش، قرر أن يترك كل شيء وأي شيء يعطله عن أن يعيش حياته.
سأل صديقي، المجذوب بالتكنولوجيا، والذي يخاف الحياة البسيطة باعتبارها صعبة للغاية: "هل عشتَ حقًا؟"
ثم أجاب نيابة عنه: "أنت نسيت تعيش."
لا يزال هذا السؤال وإجابته عالقين في رأس صديقي، ولا يزال كل ما وصل إليه صواف عالقًا في رأسي.
وأتساءل: هل سأكون قادرة في يوم من الأيام على فعل ذلك؟ أم أن حياة سيدة الأعمال التي كنت أحلم بها ستنتصر؟
هل الطموح يدمر المرء حقًا؟
غادر صواف أولًا من الحافلة، وقبل أن ينزل، داعب السائق، ووزع سجائره على السائق وبعض المدخنين الذين كانوا يقفون معه في الاستراحة.
وما إن نزل، حتى علّق السائق: "كان صاحبكوا ولقيتوه ولا إيه؟"
أجيب الآن: كأنه صديقنا بالفعل.
أعتقد بأن صواف روح أكثر من كونه آدميا، وأعتقد بأن بعض الأرواح التقوا في الملكوت في زمن بعيد لا أحد يذكره، لكننا فقط نشعر بهم ما إن نلقاهم.
تركت روح صواف الجميع ضاحكين، وبعد أن غادر، ابتسمت.
أردت أن أكون روحًا حرةً مثله، تترك أثرًا طيبًا، ولو ضحكة على وجوه غرباء على طريق سفر، وتُذكر بعضًا منهم بالحياة... بالسلام النفسي الذي افتقدناه.
Comments
Post a Comment