مشروع الثالثة والعشرون - (22) أن تبدأ من جديد
- Get link
- X
- Other Apps
أن تبدأ من جديد
هل زارتك فكرة أن تهرب وتترك كل شيء وتبدأ من جديد في مكان آخر لا يعرفك فيه أحد؟
في الثامنة من عمري بدأت أفكر في هذا الأمر، ولا أعلم السبب على وجه التحديد، لكن ربما لأني لم أكن أحب الانصياع إلى الأوامر التي لا أفهم سببها. اطلب مني أي أمر، لكن قل لي ما سبب هذا الأمر، ناقشني، لا تعاملني كأني بلا عقل. هذه الغلطة التي يقع فيها الآباء مع أبنائهم الذين تتملكهم الأسئلة والاستفسارات حول كل شيء وأي شيء، فيتوقفون عن الإجابة ويبدأون بالأوامر. وهذا الطريق لا يؤدي بالطفل إلا إلى ازدياد العناد والفضول، ليبدأ البحث عن إجاباته في أماكن مختلفة، لا يهم أين تقع هذه الأماكن، ولو كانت على كوكب آخر. المهم هو البدء من جديد، وغالبًا لا يحدث هذا إلا بالهرب من الماضي، بمن فيهم الأهل الذين أبوا فضولك، والأرض التي لم تفهمك.
الهرب، تلك الفكرة التي كانت محور العديد من الروايات، القصص، والأفلام. يهرب الأبطال ليبدأوا من جديد، اختفاء مفاجئ من مكان اعتادهم بشدة، حتى إن وجودهم صار مثل كرسي قديم لا يضر ولا ينفع في شيء؛ فكان الهرب هو الحل لأنهم ليسوا قطع أثاث لا تستطيع التحرك، بل بشر تنقصهم عزيمة الحركة، خاصة لو كان نحو المجهول.
أعتقد أني اليوم هربت هروبًا صغيرًا من الأصدقاء أثناء حضورنا لحفل غنائي. انسحبت بعد أن سلمت على أولئك الذين كانوا يقفون بالقرب مني، وتركت الحفل من منتصفه، لم أكمله. ذبت وسط الجموع حتى استطعت الخروج إلى شوارع وسط البلد، ومشيت وأنا لا أعلم ما هو حالي. وصلت إلى المترو، ونزلت حيث عرباته، لتغادر إحداها أثناء حضور الأخرى في لحظة تمنيت لو كنت الرياح التي كانت وسط هذا حتى لا أكون بعدها!
حاولت التحكم في دموعي أثناء رحلة العودة إلى المنزل، الذي لم يكن به أحد، حمدًا لله، لأني لم أكن لأتحمل أي أسئلة عن سبب عودتي مبكرًا. دخلت إلى حجرتي، أجري وراء الفكرة التي سيطرت على عقلي في العودة، ألا وهي: لماذا لا أختفي؟ لماذا لا أهاجر؟ لماذا لا أترك المدينة بكل ما فيها من ذكريات، آلام، بقايا أصدقاء، ولا شيء من روحي؟ بكل ما فيها من أحلام لم تتحقق، ووهم لن يحدث، وعقول لم ولن تفهمك... لماذا لا أرحل؟ ما سبب بقائي؟
لا شيء... لا شيء على الإطلاق. فقط تفاصيل الهجرة كثيرة، لكنها ليست مستحيلة. المستحيل هو تسكين آلامك إلى ما لا نهاية أو التعايش مع الجراح إلى الأبد. جاءت كلمة "هجرة" من فعل "هجر"، فدعني أسألك: كم مرة هجرت بيوتًا؟ كم مرة هجرت أشخاصًا تحبهم ولكنهم آذوا روحك؟ وكم مرة هُجرت ممن تحب، ممن وثقت بهم؟ كم مرة رحلت عنك أحلامك؟
فأن تهجر وطنك الذي لم يعطيك سوى الخذلان ليس هجرًا سيئًا، بل صحي، وعلى الأرجح سيكون في صالحك، لأنه ليس وطنًا من الأساس. في هذا اليوم بدأت خطواتي تجاه الهجرة أو الاختفاء. ربما تسأل: لماذا أدعوه اختفاءً وليست هجرة؟ وهذا لسبب بسيط: أني لم أودع أحدًا، وحتى القليلين جدًا الذين كانوا يستحقون أن يعرفوا أني راحلة، لم أخبرهم بوجهتي. لا أريد لأي شخص ممن كانوا يعرفونني أن يعرفوا أين أنا. أريد ألا أكون في حياة من عرفوني، بلا عنوان لمن قدموا لي المساعدة، وبلا هوية في هذا البلد الأجنبي. يكفي أن يعرفوا أن هذه الغريبة تتقاضى الكثير لأنها تستحقه، ولا شيء آخر.
أعيش الآن وحيدة في منزل صغير، لا أهتم بأحد ولا أحد يهتم بأمري. هذا شيء مجهد، لا أنكر ذلك، ولكن الأكثر إجهادًا أن تشعر بذلك وأنت في وطنك، وسط كل الذين كنت تتمنى أن يحبوك ولم يفعلوا، ووسط من خذلتهم دون قصد.
كنت أطمح أن يكون الوضع طبيعيًا، وألا يكون هناك شيء غريب في شعوري بالغربة الآن.
- Get link
- X
- Other Apps
Comments
Post a Comment