مشروع الثالثة والعشرون - (18) هززت تصالحي مع ذاتي

هززتُ تصالحي مع ذاتي

هل هزّ أحدهم تصالحك مع ذاتك ثم رحل؟

في خيالي، ينقسم العالم إلى ثلاثة أجزاء: الأول، هؤلاء الذين وُلدوا دون أن يبالوا بأي شيء في الحياة، يعيشون في سلام دائم، عقولهم هادئة، وقلوبهم في نعيم. الجزء الثاني، أولئك الذين يحاربون طوال الوقت—يحاربون الآخرين، يحاربون ذواتهم، نسخهم القديمة والقادمة، حتى في عقولهم وهم وحدهم، لم يمروا بسلام قط. أما الجزء الثالث، فهم الذين يحاربون أحيانًا، ثم يستسلمون للحياة حينًا آخر، فيعمهم السلام. إنهم بين الاثنين، لم يُولدوا بسلامٍ فطري، لكنهم يسعون إليه كل يوم، لأنهم يعلمون جيدًا أن الحروب غير مجدية، خاصةً إن كانت مع أنفسهم. ففي نهاية اليوم، وفي كل وقت، لا تملك سوى نفسك. فإن حاربت نفسك، من يبقى لك؟ من سيظل إلى جانبك غير ذاتك؟

أنتمي أنا إلى الفئة الثالثة من البشر. وُلدتُ مع الحروب، أو ربما صُنعت داخلي، لا أعلم. لا أهتم طوال الوقت، لكنها موجودة، وعليّ أن أعترف بذلك، حتى وإن كنت لا أحب هذا، ولم أكن أريد أن أنتمي إلى تلك الحروب. أدركتُ مبكرًا أنني لا أملك غير ذاتي، فحتى إن أجبرتني الحياة على القتال، عليّ ألّا أحارب نفسي. فالوحدة رفيقتي منذ صغري، شكّلت جزءًا كبيرًا من شخصيتي، تعلمتُ أن أحبها، وعندما أبتعد عنها، أشعر أنني غريبة عن العالم.

وأدركتُ أيضًا أنني أحب الفئة الأولى من البشر، أولئك الذين ينتمون إلى السلام، إلى الحب، إلى الحرية، وإلى البُعد عن العراك والحروب المستنزِفة. أحب أن أكون في سلام، بل أن أكون السلام ذاته لو أستطيع!

ولكن حين يدخل الآخر حياتك، فإن قلبك لن يُميّز إلى أي فئة ينتمي. وحتى إن فعل، لن تستطيع أن تُخرجه من حياتك لمجرد أنه ينتمي إلى فئة لا تُحبها، لأنك ببساطة تحب الشخص الماثل أمامك، أيًّا كانت فئته.

دعني أحكي لك من البداية، لأن هذه هي المرة الأخيرة التي سأحكي فيها عن ذاك الآخر... أتمنى ذلك!

لم نكن على وفاق منذ اليوم الأول، كنا دائمًا نتشاجر، لكن كما يُقال: ما محبة إلا بعد عداوة!

بدأت قصتنا في مترو الأنفاق... نعم، هناك كانت البداية. حين تفرّق الأصدقاء، وبقينا وحدنا في الاتجاه نفسه. بدأنا الحديث عن أشياء كثيرة، حتى وجدنا نقطة مشتركة في طفولتنا جعلتنا نغرق في الحديث دون توقف. وعندما وصل إلى محطته، قال لي قبل أن ينزل: "يجب أن نكمل حديثنا".

ابتسمت، فمنذ وقت طويل لم أجد من أستطيع التحدث معه بهذه العفوية والراحة. وبالفعل، في المرة التالية، نزلنا وحدنا دون الأصدقاء، وأكملنا الحديث الذي بدا وكأنه لا ينتهي. مرة، ثم اثنتان، ثم ثلاث... حتى أصبح لقاؤنا الأسبوعي أمرًا لا بد منه.

إلى أن حان موعد سفري، الرحلة التي كنت أرتب لها منذ فترة. خلال تلك المدة، كنت أشاركه المدن التي أزورها، وكان دومًا يطلب المزيد، يريد أن يعيش اللحظات التي أعيشها، أن يمشي في الشوارع التي أمشي بها.

وحين عدت، شعرنا أنه بإمكاننا استئناف أسابيعنا كما كانت، فقد أصبح طبيعيًا أن نرى بعضنا البعض. استمر ذلك حتى بدأت مرحلة جديدة في علاقتنا، حيث بدأ يطلب مني أن ندخل في علاقة عاطفية. لم أكذب على نفسي، لم أتفاجأ، لكنني أيضًا لم أكن أتصورنا في شيء سوى الصداقة. ومع ذلك، إصراره الذي استمر لشهور أقنعني أن نجرب الأمر.

في البداية، كنت أقاوم أي مشاعر قد تتشكل تجاهه، ثم شيئًا فشيئًا تركت نفسي لها، لكنني كنت دائمًا ما أتراجع. كان ذلك يثير غضبه، لكنه لم ييأس، كان يحاول دائمًا... وكان يختفي كلما شعر أنني بدأت أشعر بالأمان!

بدأت العلاقة تأخذ منحًى غريبًا... شعرت أنني لم أعد أنا.
"لماذا لا تشاهدين هذا؟ لماذا لا ترتدين ذلك؟ هؤلاء ينظرون إليكِ بطريقة غير لائقة... لا، لا يصح أن تتصرفي هكذا، عليكِ أن تكوني ألطف في ردودك... أنتِ غير كافية..."

توقفت كثيرًا عند هذه الكلمات... تراجعت خطوة بعد خطوة، حتى عدت إلى نقطة البداية. بدأت أشك في نفسي، تلاشى تصالحي مع ذاتي، بدأت أكرهه، لكنني لم أتركه. لم يعد مُنبهرًا بي على الإطلاق، لكنه أيضًا لم يتركني... حتى أدركنا أخيرًا أن علينا إنهاء هذه العلاقة فورًا.

لن أكذب إن قلت إنني كنت أتساءل كل يوم: متى سنترك بعضنا؟
لم تكن علاقتنا طبيعية بأي شكل، لم يكن فيها أي سمة من سمات العلاقات الصحية. ومع ذلك، وسط كل هذا التذبذب بين الظهور والاختفاء، بين الخوف والتراجع، جاء عرضه الغريب جدًا...

"ماذا لو تزوجنا؟"

نعم، الزواج. كان ردّي ببساطة: "دعني أفكر!"

كيف لم أرفض وأرحل فورًا؟! ربما كان ذلك تعلقًا مرضيًا، يبدو أننا كنا بحاجة إلى أن نتعلق بشيء، بأي شيء، حتى نستمر. لكن تكلفة ذلك كانت باهظة... فقد هزّ أحدهم تصالحي مع ذاتي.

كان عليَّ أن أكون حازمة مع نفسي أولًا، أن أعترف بأن ليس كل ما تهفو إليه قلوبنا يصب في مصلحتنا. وثانيًا، أن أواجهه بالحقيقة بكل شجاعة وقوة: "علينا أن نترك هذا كله."

ربما استغرقني الأمر وقتًا طويلًا لأدرك أننا غير مناسبين، رغم أن الأمر كان واضحًا منذ البداية. لكن في صباح أحد الأيام، تحت شمس واحدة، حدّقت بها طويلًا، واستمددت منها الشجاعة والقوة لأكون واضحة مثلها، وأعترف بما يجب أن نفعله... وقد كان.

وانتهى كل شيء.
لكن الشيء الوحيد الذي لن أنساه مهما مرّت السنين... هو أنك هزّزت تصالحي مع ذاتي.

وصدق البدايات لانها تخبرك بالنهايات بطريقة غير مباشرة، فإنصت لها.

Comments

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب

مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية