مشروع الثالثة والعشرون - (17) كن صديقي

 كن صديقي

إن أردت أن تكون معي العمر بأكمله، فلتكن صديقي.

من الذي يبقى في هذا العالم لك؟ أبواك؟ إخوتك؟ أم أصدقاؤك؟
إجابتي دائمًا تكون الثالثة، فقد عنيت كثيرًا لأصدقائي، أراهم الظهر الذي اخترته لذاتي، على عكس الأهل، فهم الظهر الإجباري الذي لا يمكنك تغييره.

الأصدقاء تختارهم، لروحهم التي تشبهك، للتشابه بينكم، وللأوقات السعيدة، وحتى للحزن الذي تتشاركه معهم. تختارهم لأجل لا شيء سوى أنك تحبهم حقًا ووجدت الراحة في قربهم، فأنت عونهم وهم سندك.

لكن عندما نكبر، تحدث مشكلة كبرى في الصداقة بين الجنسين، فيصبح الفاصل بين الصديق والحبيب ضعيفًا، فتبدأ بالتوهان، والدوران في دوائر مفرغة، هل أحب هذا الشخص، أم أنني فقط بحاجة إلى صديق مقرب يفعل القليل مما يفعله الحبيب؟

في آخر سنوات الجامعة، قابلت شابًا يكبرني بخمس سنوات في العمل. في أول مرة تقابلنا فيها، بدت اهتماماتنا متقاربة جدًا، نحب السفر بصحبة أنفسنا، قراءة كتب علم النفس، النظر من الشُرفات لأوقات طويلة دون ملل، الانعزال في البيت لأيام، والخروج عن المألوف في كل التفاصيل.
نختار الأماكن الخالية، والأوقات المبكرة جدًا أو المتأخرة جدًا للتسكع. تسكعنا لبعض الوقت معًا، واتفقنا دون أن نتفق أنه حين نعتزل الحياة، سنخبر بعضنا. كان حين يبتعد، تبدو الحياة قاتمة، وأشعر كما لو أنني فقدت ألوانها، وحين أختفي، كان يبعث لي الرسائل التي تشجعني على أن أعود سريعًا.
كان اهتمامنا ببعضنا متبادلًا، هو في عيني يختلف عن الجميع، واثق من ذاته أيًا كانت آراء الآخرين في أي مما يفعله، وكان يحب الحياة وفي الوقت ذاته زاهدًا فيها، يستطيع أن يعيش وحده، لكنه لا يمانع أن يتشارك الحياة مع شخص آخر. كنا ضيوفًا لطفاء في حياة بعضنا البعض.

إلى أن حدث الأمر غير المفهوم، الاندفاعي، الذي غير كل شيء، عندما احتضنَّا بعضنا في إحدى الليالي. وقتها تغير كل شيء في العالم.
لا أعرف بالتحديد إلى ماذا تغير، كأن أجسادنا أعطت بعضها البعض حماسة، دفعة، روحًا جديدة، أو للدقة، تجديدًا للروح المرهقة التي زارها الموت أكثر من مرة. كان هو كذلك بالنسبة لي، وكنتُ له الشعلة التي أثارت فضوله تجاه الحياة من جديد، بعد أن كان الموت يدق بابه من وقت لآخر.

بدأت حكايتنا الحقيقية في ذلك اليوم. نتحدث باستمرار، نهتم بشؤون بعضنا، نبالي أين الآخر، نتسامر، نتقابل معظم أيام الأسبوع، نكتشف الجديد معًا ونعيد اكتشاف القديم، والأهم أننا نكتشف ذواتنا معًا. الأمر الذي كنت أجد فيه متعة دائمة ولم أجد من أشاركه معي، والآن أصبح لي شريك في ذلك.
رفيق الأفلام، من أقصّ عليه ما أقرأ، ومن يروي لي الأشياء المعقدة علميًا كأنها قصة مشوقة. هو من اختبرت معه مشاعر لم أختبرها مع أحد من قبل، أصبح هو الحياة، وشجعني على أن أعيشها معه وبرفقة الآخرين، وأن أصنع الأحلام..

لكن، ككل الحكايات، تبدأ في أول الأمر بالتشابهات الجميلة التي تجعلك تمشي الطرق واثق الخطى وكأنها صُنعت خصيصًا لك، ثم تبدأ في إدراك الاختلافات التي كانت تعجبك، ثم تدرك أن الاختلافات تعني هنا أنك لم تعد تستطيع التعامل معها. إدراك الاختلافات معناه أن تتجاوزها وكأنك لا تراها، الأمر الذي ينتج بعده انفجارات، أو أنك تبدأ في التعامل معها رويدًا رويدًا حتى تصلان معًا إلى أرض حياد. فإما أن تبقيا معًا في حالة من الرضا عمّا وصلتما إليه، أو يترك كل منكما الآخر في عذاب يتبعه سلام، أو يتمسك طرف ويترك الآخر.

ما حدث لنا هو أننا أدركنا الاختلافات وحاولنا التعامل معها، لكننا لم نصل إلى أرض حياد قط، وحتى إن وصلنا، كانت تتغير بسرعة كبيرة. لكننا، ورغم كل هذا التعب الناتج عن التغيرات، لم نستطع أن نترك بعضنا. فاستمررنا سنوات على هذا الوضع: لم نترك، ولم نتجاوز الاختلافات.

إلى أن جاءت الطمّة الكبرى التي غيرت كل شيء. جاءتني الفرصة التي اعتبرتها ذهبية، والتي كانت أحد أحلامي، والتي شجعني هو على صنعها: السفر للخارج حتى أقدّم أفلامًا. وهنا تبلور الاختلاف، وطعننا الاختلاف، وهو ما جعلنا نفترق بحب وكره، بضيق وغضب، بإيمان وسلام أتى بعد الكثير من الزمن.

وأتساءل من وقت لآخر: ماذا لو لم تأتِ الفرصة؟ ماذا لو رفضتها؟ وماذا لو وافق؟ ماذا لو لم يحدث ما حدث؟ لكن في النهاية، حدث ما حدث، فأدركتُ السلام، وأحببتُ قصتنا، ولم أندم يومًا أنني عشتها، ولم أكره أيامي معه، ولم أندم على الأوقات التي حاولنا فيها الوصول إلى أرض الحياد المتغيرة.

كان هو الحياة، ولو لبعض الوقت، وأعطاني الشغف لأصنع الأحلام من جديد وأحققها. كنتُ نتيجة لما تناقشنا فيه، وكنتُ فعلًا لما حلمتُ به، وكان هو الحياة... أو ربما لا يزال الحياة!

والآن، وبعد أن عدنا أصدقاء، أهديه فيلمي السادس، وأقول له:
كن صديقي، تكن معي طوال العمر.
أحبك.

Comments

Post a Comment

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب

مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية