مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

أعرفه ولا أعرفه!

نقابل الكثيرين الذين لا نعرفهم حق المعرفة، ولكن نعرف مشاعرهم تمام المعرفة!



الوضع الاقتصادي.. تلك الكلمتين اللتين لم نكن نفهم معناهما، ولكن نشعر وكأن أزمات العالم كلها تأتي ما إن نطق أحد بهما.

العالم العربي والوضع الاقتصادي، فساد حكام، ربيع عربي، ثورات، أحلام شباب تموت ودماء تُهدر، وحياة تمضي كأنها لم تكن من الأساس.

نشرات أخبار مليئة بأقوال كريهة للإنسانية كلها، وليست لشعب واحد فقط، زمن يعاني الناس فيه أكثر مما يعيشون.

نحن جيل تربى على أخبار احتلال الأراضي الفلسطينية، على صورة محمد الدرة الذي قُتل في حضن أبيه، ولما التفت الوطن لأخباره الداخلية، استيقظ على أوبئة سنوات تلي سنوات، ومن بعدها الربيع العربي، احتراق محمد البوعزيزي، ثم ملايين في ميدان التحرير.

يقول الرسول محمد ﷺ في الدين الإسلامي، في يوم القيامة سيسأل المرء عن خمس:
عن عمره فيما أفناه، شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وعلى ما أنفقه، وماذا عمل فيما علم؟
أفكر، ماذا ستكون إجابتنا: أفنينا عمرنا في محاولتنا البقاء على وجه الحياة دون الانتحار، وأبلينا شبابنا في محاولة تجنب الأخبار الموحشة، واكتسبنا أموالنا من كل ما هو حرام، لأن الحلال لا يبقينا أحياء، وأنفقناه على لذات حتى نستطيع إكمال الطريق، وتناسينا ما علمناه حتى لا يكون علينا أن نعمل الصواب.

هكذا أتخيل إجابات جيل كامل.. عفوًا، لم أقصد أن أقلل من شأن الأسئلة في يوم مقدس، ولكن أليست حياتنا مقدسة؟

إسلام، ذلك الفتى الخجول، الذي يمتلك من الأخلاق ما لا تجده عند معظم أبناء جيلنا، كان يكبرني بحوالي 6 سنوات. عرفته في كورس اللغة الإنجليزية، كان يحاول أن يطور من لغته حتى يترك البلد الذي رفضه.. هكذا كان يظن، لكنه لا يعلم أن البلد رفض أبناءه كلهم، إلا أبناء الأثرياء، وربما رفض هؤلاء أيضًا!

إسلام شاب في مقتبل العمر، يملك الملامح المألوفة للشباب المصريين، الشعر الأسود القصير، والذقن الخفيفة، والوجه البشوش، لكن عيونه كانت دائمًا في مكان آخر. حتى تلفت انتباهه عليك أن تناديه أكثر من مرة، دائمًا كان في ملكوت آخر. عيونه تحمل من الهم ما يفوق سنه، تشعر وكأنه بشكل ما يستغيث من شيء ما، عيونه المبتسمة دائمًا على حافة البكاء.. إلى أن جاء اليوم الذي انفجر فيه.

كانت عيونه تائهة في ذلك اليوم أكثر من المعتاد، وكان ملكوته أكثر عمقًا من أي يوم سبق. في هذا اليوم بالتحديد، كان يبدو وكأنه على وشك البكاء، يحاول أن يتماسك، إلى أن سأله أستاذنا عما به، لم يسمع السؤال حتى سُئل مرة أخرى:

- إسلام، انت كويس؟

لم يُجب، دمعت عيناه، وانفجر باكيًا.. واتخذ الأمر وقتًا حتى نفهم أن أحدهم مات.

- من الذي مات؟ وكيف؟ ما الذي حدث؟ الجميع بدأ يسأل، حتى جاءت الإجابة منه بصوت منخفض بالكاد تسمعه:

- النهاردة سواق التاكسي اللي كنت راكب معاه موت واحد بالغلط.. شوفت الرجل وهو بيموت.. كل الناس شافت الرجل وهو بيموت ومحدش عرف يعمل حاجة.

= لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.. طب مين غلط يا إسلام؟

- معرفش مين غلطان، بس السواق ده كان متطابق على العربية علشان مصاريف مدارس ولاده، كان بيقولي، وكنت عامل في حسابي أديله أكتر في الأجرة يمكن ده يحسن الوضع ولو بنسبة بسيطة، بس الرجل مخدش حاجة، عشان راح القسم، ومحدش عارف هيرجع ولا لا، ولا إيه اللي هيحصله؟ وعياله مين هيدفع مصاريف مدارسهم أو مصاريفهم عمومًا؟

= طب معلش يا إسلام، أكيد ربنا هيتولاهم.

- هو إن شاء الله هيخرج، بس هي إجراءات.

= يعني إيه؟

- أنا روحت مع الرجل القسم، ولما روحنا قالوا إنهم بيفرغوا الكاميرات عشان يعرفوا هي غلطة مين. طالما الحادثة حصلت في طريق سريع، ومش مكان مشاة، فبالتالي المكان غلط للعابر، فكده مفيش أي حاجة هتحصل للسائق غير إنه هيدفع 120 جنيه!

يعني إيه 120 جنيه في روح بني آدم؟ وليه رجل عنده حوالي أربعين سنة يشتغل عدد الساعات ده كله، وهو خريج جامعي، عشان يوفر مصاريف ولاده؟ والرجل اللي مات، أسرته هيبقى شكل حياتها إيه؟ ما هو في الآخر مجرد عامل في مول.

ليه.. ليه كل الحاجات هنا صعبة؟

ولقيت نفسي بسأل: هو ليه الحاجات هنا صعبة فعلًا؟

ويا ترى لما نتسأل الأسئلة الخمسة، هيكون إيه ردنا؟ بس السؤال اللي عايز أسأله دلوقتي: هل ده عدل؟


Comments

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب

مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية