مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية


أحلام شريف العشرينية

الروح الجميلة التي لم يستطع أي شخص إنقاذها أو أي شيء إشعالها!




ربيع العمر هو العشرينات.. كما زعموا. لم تتوقف السينما والأهالي عن رسم صورة عظيمة لهذه المرحلة العمرية، وكأن العالم كله يفتح لنا ذراعيه ويقدم لنا كل ملذات الحياة ويحقق لنا أحلام الطفولة الساذجة التي كانت كل ما نملك، وعلى الأرجح هي كل ما نملك إلى الآن لأن الأحلام باتت مستحيلة! 

في هذا الوقت، سنكون في الكلية التي اخترناها بإرادتنا الحرة، دون تدخل من أهلينا أو تحكم مجموع أو أي عوامل أخرى، الاختيار لنا بالطبع. سنذهب إلى الجامعة بسيارة أحلامنا ونقضي الوقت مع أصدقائنا الذين نحبهم ويحبوننا. سنضحك كثيرًا، ولا مكان للبكاء. يمكن أن نفتح مشروعًا صغيرًا معًا أو نعمل لنسلي أوقات فراغنا لا لجلب المال، فهذا لا يعنينا. ربما نحب ونسعد بمن ومع من نحب.. ربما تكتمل قصتنا وربما لا، ولكن الأكيد أننا سنعيش كما خططنا. سيكون لكل منا شركته وبيته وستكون جميع الأحلام من نصيبنا. الحياة لنا. هذه هي الكذبة التي كرروها، فصدقنا بكل ما نحمل من آمال وسذاجة لنصطدم بالواقع المرير وبالزمن الذي يقتل الأحلام في الأرحام.

نعم، اخترنا الأفضل سوءًا، اخترنا الأنسب للمجتمع، لسوق العمل، مررنا بالشوارع ذهابًا وإيابًا على أقدامنا، وفي المواصلات العامة التي كانت لا تخلو من الازدحام، التعرق والتحرش، المضايقات التي لا أعلم إلى أين وصل مداها الآن. لم نستطع أن نحلم بالمشاريع، فكنا بين الدراسة والعمل من أجل توفير نفقات الدراسة. لم نكن نكون الصداقات بل أبقينا على أصدقائنا القدامى لأننا لم نملك الوقت أو الطاقة، فكانوا هم ملاذنا كلما ضاقت بنا الحياة. أما عن الحب فلم يكن من نصيبنا، فالحب لمن يحيون، لكن نحن الأموات فلا يدق بابًا لنا. فاستغل المرض الانتشار بين معظم أبناء جيل العشرينات، المرض الذي يطفئ الشباب وأي شخص كان؛ فالاكتئاب كالجراد يأتي على الأخضر واليابس، ولا يتركك إلا وأنتَ جثة هامدة لا روح فيك. لم نفهم سبب الانطفاء العام في البداية وإلى الآن ربما، لكن دعني أخبرك بعقلي الصغير الذي قد يصيب وقد يخطئ أن الفجوة بين تصورنا والواقع كانت كبيرة، فاستطاع المرض الأسود التسلل بكل سهولة من هذه الفجوة العظيمة. دعوني أترك ثوب الفصحى وأكتب بالعامية الأقرب لنا في التعبير عما نشعر به.

شريف زي كتير مننا، كان عنده أحلام، بيسعى في طرق كتير لكن الكتابة كانت هي الطريق الأقرب لقلبه سواء في التعبير عنه أو عن غيره. في الحقيقة، أنا اتعرفت على شريف متأخر، أو أنا بعتبر إنه متأخر، اتعرفت عليه من خلال كلمات سمعتها بالصدفة، عن طريق بنت معرفهاش بتلقيها ضمن مزيج على الساوند كلاود، واللي لحد دلوقتي باعتبره مكان فيه نوادر لناس مجهولة الهوية واتمنى يوصوا في يوم من الأيام. الكلمات اللي سمعتها كانت بتعبر عني، كنت من وقت طويل ما قرأتش أو سمعت حاجة بتعبر عني لهذا الحد، لدرجة إني حفظت الكلمات وكنت ماشية برددها طول الوقت وبعدين قررت أدور على كاتب الكلمات اللي أثرت فيا للحد ده وعبرت عني بطريقة صح كده. معتقدش إنه كان فراغ على قد ما كان أمل في إني ألاقي شخص بيعبر بطريقة صادقة وبسيطة عن مشاعره وبيلمس غيره، وإني أكمل حبة كمان في الحياة اللي مش عارفة أسبها أو أكمل فيها بطريقة حقيقة، أثناء واحدة من نوبات اكتئابي، واللي باعتبرها واحدة من أبشعهم. دورت كتير عشان بس أعرف اسمه، ولما لقيته، لقيت كلمة المنتحر سابقة اسمه.. يعني شريف مات. بس أنا كنت عايزة أعرفك، أعرفه، مابقاش فاضلي غير الكلمات اللي معايا وأكونت الفيسبوك والتويتر وحبة حاجات مكتوبة في حتت متنطورة، بس فضولي وشغفي في إني أعرفه خلوني أقعد أوقات طويلة بأشوف كل حاجة بيكتبها، بيقدمها، حتى الحاجات اللي بيصورها، قعدت ساعات طويلة مع شريف اللي مابقاش موجود، ومع صحابه في أوقات، سمعت مناقشاته ومشاعره وقريت تفاصيل من حياته، عارفة إن كل الحاجات دي هو اللي عارضها ويمكن متكونش الحقيقة كاملة لكن في الآخر سعى شريف في إنه يكون كويس حاجة متشافة حتى من صحابه اللي كانوا معاه واعترافه بمحاولات تشتيت نفسه وإنه يبعد عن فكرة إنهاء حياته. بس شريف كان خايف نفس خوفنا، الوضع مش بيتغير ولو حصل فبيكون للأسوأ.

كنت فين زيّ النهارده من سنة؟

زيّ ما أنا ..

قادرة أتفهم خوف شريف من إنه يواجه نفسه بعد سنة وهو لسا مكانه، نفس خوفي كل يوم من مكاني، بكرر نفس الفكرة وهي تشتيت نفسي في كتير من الحاجات علشان ما أفكرش في بكرة والموت، بس هل التشتيت صح أصلًا؟ بس هو بيبقى الحل الوحيد قدامنا، الخوف ده مكانش خوف شريف لوحده، لكنه خوف كتير مننا. يمكن نكون حلمنا أكتر من اللازم وأهلنا غلطوا لما رسمولنا صورة مش حقيقية هما نفسهم ما عرفوش يشوفوا أي حاجة منها في الحقيقة، يمكن بنوا آمال علينا ودي كانت تاني أكبر جريمة ارتكبوها في حقنا بعد تقليلهم لمشاعرنا وعدم تفهمهم للضلمة اللي جوانا. حتى الصحاب ما فهموش الاستغاثات اللي بنبعتها من وقت للتاني على الرغم من إنها بتستفز كتير من روحنا. شريف لما واحد من صحابه سأله هل عندك أفكار انتحارية في فيديو على سبيل الهزار قاله "يييه كتير عشان أنا طول الوقت مستني"، إحنا دايمًا مستنيين ويمكن هي دي المشكلة، إحنا دايمًا مستنيين أحداث سواء صغيرة أو كبيرة، اتعلمنا نستنى بس للأسف ما تعلمناش نعيش. شريف قال عايز أبطل أفضل مستني، فقرر يمشي. على الرغم من أن حتى تفاصيل موته مبهمة بين انتحار أو موت خطأ، بس في النهاية شريف كان بيشاركنا نفس المشاكل والمشاعر وهيفضل من الشخصيات اللي كان نفسي أقابلها وأتمنى إني أعرف أعبر زيه وألمس غيري بالكلمات وإني أبطل أستنى وأعيش، وأتمنى ليا ولغيري إني أحقق المعادلة الصعبة وأعاني بسعادة وأعيش بحب! أتمنى تكون مش مستني دلوقتي ومبسوط. دامت كلماتك خالدة. 

قواي منهارة تمامًا، لا أقوى حتى على حمل كتاب، صرت أتنفس النيكوتين، صرت أتحاشى الخروج مع أصدقائي لأنني أكون كالحجر الذي يسد تدفق نكاتهم السخيفة التي تضحكهم ولا تضحكني، 

كعادتي في بدء أي سنة دراسية أكون متحمسًا كفحمة مشتعلة لا تلبث أن تبرد بمرور الأيام والشهور الدراسية، لكنني الآن مُطفئ، ولم يستطع أي شخصٍ أو أي شيء إشعالي، فاشلٌ دراسيًا، عاطفيًا، ماديًا، اجتماعيًا. 

لولا جيم أوف ثرونز لكنت الآن جثة منتحرة، لا أدري ماذا أفعل بعده، وماذا سأنتظر بعد ذلك؟ أنا أعلم أنني وقح، وقح حتى مع نفسي، ولم يتحملني أحد سوى أمي ونادرًا. أنتظر حتفي بمنتهى الصبر، أتمنى أن أكون عجوزًا لأموت من الشيخوخة، أشعر أنني عجوز في العشرين من عمره. لقد كنت أستمع إلى أغنية محمد منير «امبارح كان عمري عشرين» ولا أحس معانيها إلا الآن. لقد صرت كهلًا دون أن يخطي الشيب رأسي. قال صديقي وهو يصرخ «أريد أن أعلق بشيء، أن أعلق بدين، بفتاة، بحياة، بأي شيء ليعطي معنى لحياتي» وأنا أشعر به جدًا، أشعر أنني في حاجة لنوم عميق، مضادات الاكتئاب لا تفعل شيئًا سوى أنها تزيدني مزيدًا من الوزن، لا شيء يجدي معي. 

أنا غير صالح للحياة.


ملحوظة: كل ما كُتب باللون الأحمر (من كتابات شريف)

Comments

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب