مشروع الثالثة والعشرون - (5) الكتابة
الكتابة
كاتمة أسراري، رفيقة دربي ونافذتي على ذاتي.
الأيام الممتلئة بالأحداث، الأيام التي تلتقي فيها الكثيرين، الأوقات التي تمتلئ فيها ذاكرتك بالكثير من التفاصيل، الوجوه، الروائح، الحكايات. تجد ذاكرتك في نهاية الأسبوع تحمل لقطات عديدة: لقرط صديقة، ابتسامة، صوت، نسمة هواء، لحظة امتنان جلست فيها بعد رحلة طويلة. لقطات عديدة قد ترهقك أو تجعلك تبتسم، وأخرى تجعلك تبكي. الذكريات، الحكايات، وتفاصيل يصعب أن تسردها إلى أحدهم، ولا وقت لذلك في وسط سرعة هذه الأيام. وحدها الكتابة تنتشلك من ذلك، تنشلك من صور ذاكرتك والأصوات بداخلها، وحدها الكلمات التي تُكتب بإمكانها أن تقلل من وقع الضوضاء عليك. التدوين هو ما يجعلك تتذكر الأيام اللطيفة، والتفنيد هو ما يجعلك تدرك كل ما حدث، ما يجعلك تفهم من أنت الآن، الطرق التي يجب أن تسلكها، والأمور التي تريد تركها. أعترف بأن الكتابة تجعلني شخصًا أكثر اتزانًا. أعتقد أني من دونها لما وصلت إلى أي شيء مما أنا عليه الآن. كنت سأضيع، سأكون بلا بوصلة أو هوية. الكتابة ما جعلتني أحيى لمرات، كنت فيها على وشك ترك الحياة برمتها. فأنا أكتب كي لا أموت وأكتب كي أحيى. عرفت الكتابة لأول مرة وأنا بعمر الثامنة، صدفة صغيرة جمعتني بهذه الصديقة، لأني لم أكن أمتلك الأصدقاء وأصبح لدي من الأسرار ما يتطلب الأصدقاء. فكانت الكتابة الخليلة التي اتسع صدرها لكلماتي، كما أنها هي الوحيدة التي كانت قادرة على كتم كل ما أملك من عبث داخل عقلي لسنوات عديدة قبل أن أتعلم كيف أصنع أصدقاء يتسع صدرهم لي. الكتابة هي أول من عرفت عن حبي الأول وأنا في الصف الثاني الابتدائي، والتي قصصت لها كل تفاصيل حبي وسعادتي، كما أنها شكلت مصدر خوف لي في ذلك الوقت، وكان هذا التساؤل يراودني: ماذا لو وجدت أمي ما كتبت؟ لكن الكلمات التي كانت بداخلي كانت أقوى من أن أكتمها، ولو سبب لي هذا الكثير من المشاكل. فتحايلت على الأمر وأصبحت أكتب ما أريد من خلال قصص حقيقية، ومن ثم تعلمت أن أدمجها مع خيالي. بات عقلي يدمج الواقع بصور تكمن في خيالي، وهكذا تعددت الأوراق المكتوبة لدي التي تحمل قصصًا طفولية لطفلة وحيدة لا يعرف أي شخص ما يدور داخلها. لم أكن حزينة أو سعيدة في ذلك الوقت، فقد كنت محملة بالكثير، الأمر الذي جعلني أكتب كثيرًا حتى تعلمت أن أكتب الخواطر، ما يدور بعقلي بعيدًا عن سرد أحداث متتابعة. أحببت أن أكتب الخواطر، فكانت مهربي لتفريغ الكم الهائل من الأفكار والنظريات التي كان يصنعها عقلي. وأنا بعمر الخامسة عشرة بات لدي الكثير من الأوراق التي تحمل إمضائي، التاريخ، اليوم وأخيرًا التوقيت. لم يحب أصدقائي ما أكتب، وقالوا لي إن ما أكتبه صعب للغاية، فهم لا يفهمون لغتي ولا حديثي. أعترف بأن ذلك جعلني أتمعن أكثر فيما أكتب، وفي النهاية توقفت عن الكتابة لمدة عامين حتى عاودت كتابة القصص القصيرة التي تحكي عن أحلامي وعن الآخرين وعني. كان أجمل ما كتبت وأنا في التاسعة عشرة من عمري، حينما كتبت عني وعنك، وعن ما لا نستطيع أن نعترف به، عن ما يكمن داخلنا وحتى نحن نجهله عن أنفسنا. ومن ثم أصبحت الكتابة ترعبني، تكشفني أمام ذاتي، تكشف الحقائق لي وما يواريه الآخرون. أن تكتب يعني أن تكشف جزءًا من المستور، وأن تحلق لترى صورة أكبر مما يراها غيرك. لكن في النهاية عقلي محمل بالكثير، عقلي كمخزن ملغم وعلي أن أفرغه وإلا أنفجر في حياتي كلها. فأكملت الكتابة ولذلك تقرأ أنت هذا وأكتب أنا... أكتب لأن ليس لي غير الكتابة سبيل للوجود أو الحياة.
Comments
Post a Comment