مشروع الثالثة والعشرون - (4) أسف على الإزعاج
أسف على الإزعاج
لم يقصد أبي أن يزعجني كما لم يقصد المهندس حسن أن يزعج الرئيس!
لا نفهم معنى الكثير مما يقوله آباؤنا، ولا نفهم كيف يقيسون الأشياء وما هي المعايير التي تبدو بالنسبة إلينا غريبة، حتى نكبر ونُكيل الأمور مثلهم تمامًا. في الثامنة من عمري، اصطحبني والدي إلى السينما كما كان يفعل كل فترة، ولكن هذه المرة كان الفيلم مختلفًا، كان فيلمًا لأحمد حلمي والذي كنا نعلم جيدًا أنه ليس مثل باقي أفلامه الكوميدية، فاعترضت قبل دخولي الفيلم، ولكن قال لي أبي بأنه فيلم جيد وبأنك ستستمتعين. صدقت والدي! دخلنا إلى قاعة العرض، وأبديت إعجابي بإعلانات لأفلام أخرى ولكن والدي كان عند رأيه، وبدأ الفيلم. لم أفهم الفيلم، كان لدي أسئلة كثيرة ولم أكن أحب أن أقاطع أبي بينما يشاهد الأفلام وكنت أنتظر الفواصل لأسأله، لكن الآن ماذا يا أبي، أنا لا أفهم أي شيء. المعلومة الوحيدة التي عرفتها في الاستراحة أن والد حسن - محمود حميدة ليس حيًا، بينما يتخيله ابنه حسن! احترت أكثر. حينما جاء مشهد أحمد حلمي وهو يكتشف أنه كان يعيش وهمًا، كنت أجهل ما يحدث ولكن تداخل صوت شيرين مع هذا المشهد بالتحديد أدخل على قلبي إحساسًا بالحزن. هتعمل إيه لو نمت يوم وصحيت …بصيت وشوفت نفسك في المرايا بكيت جواك سؤال تصرخ تقول أنا مين … أنا مين؟ لم أستوعب كلمات الأغنية ودموع حسن، فقط كنت حزينة، نظرت لوالدي فوجدت عيونه تدمع. لم أفهم يا أبي أهذا فيلم يستحق المشاهدة؟ لماذا نحن هنا؟ حين أنهينا الفيلم، سألت والدي: هل أعجبك؟ أجاب بنعم وبعقل شارد. بعد بضع سنوات عُرض الفيلم على شاشة التلفزيون، لم أشاهده، خفت أن أشعر بالحزن نفسه مرة أخرى، ولكن وبعد أن أصبح يُعرض من وقت لآخر، صرت أرى بعض المشاهد مع تجنب رؤية المشهد الذي أصاب قلبي بالحزن والظلام. وأنا بعمر العشرين لسبب أجهله وجدت نفسي أبحث عن فيلم أسف على الإزعاج، وجدت نفسي أتمعن فيه لا أشاهده فقط وكأني لم أره من قبل! توقفت عند التفاصيل، عند نبرة الصوت الساخرة، الضاحكة والمتألمة. في هذه المرة وقفت عند المشهد الحزين الذي جعل قلبي مقبوضًا، لم أخف المشهد هذه المرة بل وقفت عنده، أعدته. الإدراك.. مؤلم، يصعب استيعاب الفقد، والذي يصيب الإنسان بالعجز حين يدرك أنه كان يعيش وهمًا أو أنه لم يكن يعيش الأشياء بالفعل، كان فقط يتخيلها، يعيشها في عقله. أتدري معنى أن تصنع عالمًا موازيًا في رأسك فقط لأنك لا تستطيع أن تعيش الواقع لا تستطيع أن تتقبله؟ يخيف الواقع في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان. كان حسن مريض فصام، مما يعني أنه يعيش حياة مزدوجة. أتسائل ألسنا جميعنا مرضى فصام بشكل ما؟ جميعنا نعيش حياتين، حياة في عقلنا وأخرى في الخيال حتى لا نموت من الواقع. ولماذا الواقع مؤلم إلى هذا الحد؟ لا أخفي عليك سرًا ولكن الكتابة الآن تؤلمني لأنها تكشف حجم الفرق بين الحياتين اللتين أعيشهما، وتكشف الواقع بشكل أكبر، بل وتعرّي سذاجتي لأن الجميل لا يوجد إلا في الخيال. أعتذر منك أيها القارئ، ولكن لن تجد أي شيء باعث على الأمل في هذا الفصل بالتحديد، ربما فقط أكون وضعتك في حقيقة أمام نفسك أنك لا تعيش حياة واحدة وأنك ربما تكون مريض فصام، تمامًا مثل حسن. انتهى الفصل.. انتهى الفيلم ولم ينتهِ الألم. أخيرًا، ما الذي شعرت به يا أبي حين انتهى الفيلم؟ أي حقيقة وضعتك المشاهد أمامها؟
Comments
Post a Comment