مشروع الثالثة والعشرون - (3) يخيفني الاندماج
يخيفني الاندماج
كنت
متفردة منذ طفولتي وإن كان ذلك رغماً عني، فأصبح الاندماج بكل أشكاله يخيفني!
دعني أسألك أولاً ما الذي يعنيه الاندماج
بالنسبة لقاموسك؟ أيًّا كانت إجابتك، فأنا أحترمها وأقدرها. أما عن إجابتي، فهي
كالتالي: الاندماج
بمعناه الصغير هو الاندماج وسط الآخرين لتصبح واحدًا منهم دون أن يُفرِّقك أحد
عنهم. أما الاندماج بمعناه الواسع؛ فهو الانخراط وسط الأفكار، والانفتاح على كل ما
ومن حولك، وتقبل كونك منتميًا للآخرين بكل راحة. الاندماج هو أن تكون متصلًا
فكريًا وروحيًا وجسديًا مع من حولك، بحيث يصعب على الغريب أن يبرز اختلافك. الاندماج
مثل لوحة تحتوي على العديد من الألوان، والخطوط، والأشكال؛ يصعب على من يراها أن
يعرف أين بدأت الفرشاة وأين كانت الضربة الأخيرة، ويصعب أن يعرف مزاجية الرسام في
كل جزء منها. لكنك في النهاية تراها متناغمة وتصرخ بمعنى واحد قوي وصريح حتى وإن
كانت تحمل معاني أخرى صغيرة. الاندماج
هو اللوحة الكاملة، على الرغم من تنوع ألوانها وأشكالها، فهي تبدو مترابطة في
النهاية. فهل
كنت يومًا تنتمي إلى لوحة دون أن تبدو شاذًا فيها؟ أنا أشعر دائمًا أني لا أنتمي
إلى أي لوحة، وإن أصبحت لوحة في يوم من الأيام، سأكون لوحة تحمل خطًا واحدًا
بعنوان "التفرد" ولا شيء آخر.
في الثامنة عشرة من عمري بدأت أدرس الرسم
الجرافيكي الذي كان يعتمد على استخدام الرصاص وإظهار الملامح والتفاصيل من خلال
تدريجه، لتري كمًا هائلًا من التفاصيل باستخدام قلم واحد! أبهرني سحر القلم الرصاص
على الورق وقدرته على التلون بين العديد من الدرجات رغم أنه لون واحد! وعلى
الرغم من عدم فهمي لحب الآخرين الرسم بالرصاص فقط دون استخدام الألوان في طفولتي،
إلا أنني أدركت الآن لماذا يمكنني أن أرسم بالرصاص فقط وإن اختلفت أسبابنا، فسحر
الواحد في التلون مخيف ومبهر.
أثناء هذه الدورة، كان هناك جزء لتعليم
الرسم بالألوان. وعلى الرغم من أن هذا ما كنت أريد الوصول إليه في التعلم وهذا ما
كنت أريد أن أتقنه، إلا أن الرصاص أبهرني. ولكن كان عليّ أن أكمل وأبدأ استخدام
الألوان. لن
أنكر أن للألوان سحرها وبهجتها، وأجزم أنها تغير مسار الأشياء، تنير الروح وتبرز
حريتك. لكن الأمر كان أكثر صعوبة لي. لم تكن الألوان أبدًا لينة في يدي، لم أفهم
كيف أمسك الفرشاة وأتركها حرة في يدي تسبح في فضاء أبيض وهي ملطخة بالألوان، ومتى
عليّ أن أنهي ضربتي ومتى أبدأها؟ الرسم بالألوان كان يثير جنوني، كان يدمر
مفاهيمي، كان جامحًا وكنت مقيدة للغاية. حاولت أن أتعلمه، حاولت أن أمشي وفقًا
لمعاييره، حاولت أن أكون حرة مثل فرشاة تتقبل الألوان كلها بصدر رحب وتسمح باندماج
الألوان على شعيراتها وتنطلق بيسر بين ألوان عدة بل وتخترع الألوان وتقفز من
باليتة إلى لوحة إلى حقيبة لتعاود رحلتها من جديد في كل يوم بكل حب وحياة مستمرة
على اللوحات حتى الفناء. لكني لم أستطع، كنت أضعف من هذه الفرشاة بكثير ولم أعرف
السبب وراء ذلك على الإطلاق! أنهيت
أول لوحة لي بالألوان وكنت أعرضها على صديقاتي لمعرفة آرائهن. بين مجاملات لا
أحبها على الإطلاق جاء الرأي الأصدق حين رفعت واحدة صوتها وقالت لي: "عناصر
اللوحة حلوة بس تحسي إن كل حاجة لوحدها، مش مندمجة." غير مندمجة. هذا هو ما يصف
اللوحة، وهذا هو ما يصفني مع من حولي، عدم الاندماج أو الانسجام. لأفهم
أن الألوان لم تُخلق لي. أصبحت أتهرب من جزئية الألوان أثناء دراستي حتى انتهيت
ولم أكمل لوحة ألوان غير التي أنجزتها أول مرة. لكن الآن وأنا أنظر إلى لوحات
فنانين أحبهم ولوحات لم أكملها، اكتشفت أن ما يفسد لوحاتي هو أنها غير مندمجة.
يمكن بسهولة أن تعرف متى بدأت ومتى انتهيت، وأين كنت سعيدة وأنا أرسم ومتى كان
العالم لا يسعني. كل جزء في اللوحة له مزاجه الخاص الذي يظهر بسهولة، الأمر الذي
يجعل النظر إلى لوحاتي يوتر الرائي ويصيبه بالجنون تمامًا مثلي وأنا أرسم. فكانت
صديقتي على صواب، كل عنصر وحده، لا شيء مترابط على الإطلاق. غالبًا لن أستطيع رسم
لوحة ملونة مندمجة وسأظل مجرد خط واحد في لوحة أو أشكال متفرقة في لوحات عدة، لأن
بكل بساطة في القول وصعوبة في الفعل: الاندماج يخيفني حتى وإن كان اندماج الألوان.
ربما لم أصل إلى القدر الكافي من الحرية لأكون مثل فرشاة منطلقة، لكني أتمنى أن
أصل، وأن أستطيع الاندماج، لأن في بعض الأحيان يخيفني التفرد!
Comments
Post a Comment