مشروع الثالثة والعشرون - (1) الصحراء أرض البداية



 الصحراء أرض البداية.. 

تشرق الشمس في كل يوم، ولكن شروقها في الصحراء يختلف!





هل جربت يومًا الشعور بأنك تختنق وسط العديد من أفكارك أنت وكأن عقلك عدوك، يحاول أن يبتعلك عن طريق استنفاذ طاقة رأسك في الدوران حول افكار لا جدوى منها، تضييع وقتك وأي قدرة للتجارب الحياتية. ربما كان الخوف هو ما يسكن العقل وهو ما يكتف الجسد عن القيام بأي حركة غير مألوفة.

قمت بالتخييم في الصحراء البيضاء مع أربعة أشخاص، في مارس من عام 2023. سافرت إلى الصحراء للتحرر من بعض الأفكار التي كانت تسيطر عليّ في ذلك الوقت وتجعلني أشعر أني مقيدة، أني لا أستطيع ممارسة حريتي. عندما صادفت هذه الرحلة، لم أتردد في الانضمام رغم أني لا أنتمي إلى الصحراء، أنا ابنة البحر والشاطئ وكل ما هو ماء. أما الصحراء فلا أنتمي لها، ولكن رغم ذلك كانت الصحراء البيضاء من الأماكن التي أرغب في زيارتها.

لا أذكر من اليوم الأول إلا العاصفة، وتفاصيل ضبابية، مثل أطفال من شرق آسيا يلعبون وكأنهم ينتمون إلى الصحراء منذ آلاف السنين أو كأنهم وُلِدوا هنا، سيارات تطفئ أنوارها، وأنا مستلقية تحت النجوم في انتظار الطعام، مجموعة من الأشخاص لا ننتمي لبعضنا ونتحدث كأننا نعرف بعضنا تمام المعرفة. 

الليل، صوت الذئاب، الخيام المتراصة بجانب بعضها، حجم المساحة داخل الخيمة والمساحة التي لك عندما يكون بجانبك شخص آخر. الظلام، الظلام الدامس.

أنت والظلام، الليل، العتمة... يختفي كل شيء، وتبقى أنت مع أفكارك، تسمع صوت رأسك بوضوح شديد للغاية. لا أعرف متى كانت آخر مرة سمعت فيها صوت رأسي بوضوح لهذا الحد. الغريب أن في الصحراء صوت أفكارك لا يخيفك، لا يوترك بل يؤنسك، وتحب أن تستمع له، فهو ملاذك وسط كل هذا الصمت.

في الصحراء أنت لا تخاف أن تواجه، لأن الطبيعة تجبرك على المواجهة. لا يوجد أي حاجز تستطيع من خلاله الهرب أو التخفي، أنت هنا لمواجهة ذاتك التي هربت منها طول حياتك.

نمت ليلة هنيئة ولم أقلق، ولم أنم كثيرًا ولكن شعرت وكأني نمت طويلًا، كان جسمي مستريحًا. أؤمن دائمًا بأن النوم على الأرض له سحره الخاص على الأبدان، وقرأت ذات مرة أنه يسحب الطاقة السلبية من جسم الإنسان. لا أعلم إن كان هذا صحيحًا أم لا، ولكنه يريحني على أي حال.

استيقظت بينما كان الجميع نيامًا، رأيت أجمل شروق للشمس رأته عيني. أول خط للنهار وأول ضوء للشمس، يختلف الشروق هنا لأنك تشعر وكأنك أول من رآه، أول من سمح له القدر برؤية النهار وهو يُولد. أعتقد أنه الشعور ذاته للممرض أو الطبيب الذي ينتزع الطفل من أحشاء أمه، ليكون هو أول من يرى وجه الطفل المنغمس الذي لم يرَ سوى الظلام. في الصحراء، أنت الطبيب الأول الذي رأى الجنين.

شعوري برؤية الخط الأول للضوء والنهار كان غير مفهوم، أضاف لي شيئًا داخليًا لا أستطيع أن أسميه، ربما أضاف لي ضوءًا داخليًا، بقعة من السلام النفسي. والمشي في الصحراء بلا حدود أو معالم واضحة أضاف لروحي الحرية التي لا يستطيع أحد أن ينكرها حين يذهب إلى الصحراء. عينك لا ترى أي حدود تمنعك من الحركة، فبإمكانك أن تذهب حيث تشاء ولن تجد أي عائق من صنع البشر. ربما تضيع ولكن لا يهم ما دمت حرًا! الشعور بالحرية يعطيك القوة، القوة التي تستطيع معها أن تكون أنت من دون خوف. ربما أحببت الصحراء لأنني مغرمة بالحرية، وأقصد هنا بالحرية أن أتحرك كما أريد دون أي قيود، وأن أكون أنا كما أنا دون أن يمنعني أي شخص من التصرف بمعايير معينة.

كل هذا شعرت به عند أول ضوء، واستكملت في أفكاري مع رأسي دون خوف منها، حتى بدأت الشمس تحرق جسدي فتنبهت إلى أن عليّ العودة لأننا على وشك الرحيل. ميزة أخرى للصحراء أنك تبدأ بتقدير الوقت حسب مدى حرارة الشمس. توقعت أننا مررنا بالتاسعة ولكن لم نتجاوز الحادية عشرة. حين عدت كانت الساعة العاشرة وأربعين دقيقة، وكان الأربعة يبحثون عني. يبدو أن الصحراء قد فتنتني.

سأعود من جديد إلى حيث اللاحدود... هل تريد أن تسمع صوت عقلك دون خوف؟

Comments

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب

مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية