مشروع الثالثة والعشرون - (21) أضعتُ ذاتي

 أضعتُ ذاتي

أؤمن أن العلاقات وُجدت لتنير الإنسان، لتجعله يستطيع تحمُّل الحياة، وتمنحه النضج، وتُبقي قلبه حيًا.

لكنني دائمًا ما وجدت العلاقات صعبة للغاية. لا أفهمها، لا أفهم دخول الإنسان في الكثير من العلاقات المُرهقة، لا أفهم لماذا يتوقف الطرفان عن الحياة حينما يجد كلٌّ منهما الآخر، لتبدأ حياتهما بالدوران في فلكٍ مغلق يخصهما وحدهما، الأمر الذي يجعل العلاقات تنتهي نهايةً تعيسة، أو لا تنتهي على الإطلاق، فتبقى تُعذِّب أصحابها، أو على الأقل تُرهق أحد أطرافها.
ليتساءل الإنسان بعدها:لماذا كل هذا؟ لا أحد يفهم لماذا كان كل ذلك. هل ليتألّم القلب؟ أم ليتعذّب العقل وتتيه الروح؟ أم أن الإنسان بحاجة إلى بعض الألم والتشتّت حتى يُدرك طريقه الحق؟

هل العلاقات تُعطِّل الإنسان عن حياته؟ هل تُرهقه؟ أم أن هذا يعني أنك في العلاقة الخاطئة؟
خلقتُ تعريفًا داخل رأسي عن العلاقات الصحية، وهو:
العلاقة الصحية هي التي تجعلك في حالٍ أفضل، تجعلك تتطوّر، تُحب الحياة أكثر، وتكون نفسك. تجعلك تُحب دون ألم، وتعطي دون ندم، حتى لو لم تكتمل العلاقة في النهاية.

ولكن حين يأتي أحدهم، تنهار كل التعريفات.
تنهار... فتنهار أنت رويدًا رويدًا، حتى تضيع من نفسك!
وحده الوقت يُحدِّد سرعة شفائك، فكلما استيقظتَ من سطوة مشاعرك، استطعت أن تُدرك: هل هذه العلاقة صحية؟ سامة؟ أم أنها لا تُفيدك على الإطلاق؟

حين ضعتُ لأول مرة

في خريف أحد الأعوام الماضية، في عمري القصير الذي أعتبره طويلًا، كنتُ قد أنهيت دراستي الجامعية، واستقر عملي بعد التخرج. لكنني بدأت أشعر بالملل والاكتئاب، بوحدةٍ عنيفة قاتلة، وبمللٍ لا نهائي.
فانغمستُ في القراءة أكثر فأكثر، وبدأت أُكثِّف خروجي، أُصوِّر وأتجوّل، أبحث عن الجديد... وأبحث عن ذاتي.
إلى أن قابلتُ من اكتشفه، ومن اكتشف الحياة معي.

بدأنا نلتقي، وصرنا نُمضي الوقت معًا، ومع كل لقاء، تقلُّ الفجوات بيننا.
حتى جاءت الحاجة بصوتها العالي لتُعلن أن هذين الشخصين يجب أن يكونا معًا.
ومن دون استئذان، دخلنا في حياة بعضنا البعض، وصرنا في علاقة غير مُسمّاة، بلا التزامات ولا مسؤوليات. علاقة مريحة، مليئة بلحظاتٍ عبثية، لحظات راحةٍ واستمتاع.

لكن... جاءت لحظاتٌ عصيبة في حياته، ولم أستطع أن أكون معه، لم يمنحني الفرصة لذلك، فتركني.
عندها فقط أدركت أنني ربما كنتُ أحبّه، ربما كنتُ متعلّقةً به، ربما أردتُ أن أكون معه.
فعُدتُ إليه، أخبرته بمشاعري، جئتُ مُحمَّلة بالكلمات، فعدنا من جديد.
حينما احتضنني، شعرتُ بالحياة تعود إليّ... لكن مع بعضٍ من الخوف، لأنه لم يعدني بشيء، واعترف أنه لن يستطيع أن يُقدِّم لي شيئًا.
ورغم ذلك، قررتُ أن أكون معه، وأن أتحمل المسؤولية كاملة.

لكن الحياة كانت ترقص بيننا رقصةً غير متزنة.
عطاءٌ مني... وجفافٌ منه.
حتى وصلنا إلى مفترق الطرق، وطلبتُ قرارًا حاسمًا تجاهنا:
"هل تريد أن تكون معي أم لا؟"

أجاب: "لا أعلم، أريد بعضًا من الوقت."

وجاءت إجابته بـ"لا" بعد أيامٍ قليلة، وكثيرٍ من الانتظار والاحتراق.

...............................

جلست مع ذاتي ووجدت أني لم اعد غاضبة منه ولا إجابته، بل أصبحتُ ممتنةً لوجوده في حياتي، حتى ولو لفترة قصيرة.
ذهبتُ إليه لأخبره بذلك، فظنّ أني أريد العودة إليه. وبعد أيامٍ قليلة، عاد ليطلب فرصةً جديدة!

ورغم أنني كنتُ قد أغلقت باب المشاعر تجاهه، وجدتُني أوافق!
اكتشفتُ أنني لا أستطيع أن أقول له "لا"، رغم أنني كنتُ أرفعها دائمًا، منذ طفولتي.

اكتشفتُ أن هذا الأمر يُضايقني، وأن عليَّ التعامل معه.
اكتشفتُ أنني ربما لم أتعلم كيف أعيش مع أحدهم، وهذا ما يجعل العلاقة صعبة للغاية.
ولكن هذا أيضًا جزءٌ من اكتشاف نفسي وفهمها.

عليَّ أن أمضي أكثر لأفهم أكثر.
أو أن أترك... وسأكون بذلك قد أضعتُ فرصةً لاكتشاف ذاتي.

ربما يكون خوفي هو العائق أمام كوني مع من أحب.
ربما يكون العائق الذي يمنعني من أن أزدهر، ومن أن أنضج في كل اتجاهات الحياة.

أن أفتح الباب لمن جعلني أتألّم كان أمرًا صعبًا ومُربكًا.
وأن أسامح، تطلَّب وقتًا.
وأن أمشي معه من جديد، دون خوف... كان إنجازًا لذاتي، عليَّ أن أعترف به.

لا أعلم أين ستأخذني الطرق، ولا أعلم إن كنا سنزدهر معًا أم سنطفىء بعضًا البعض؟

لكن...
عليَّ أن أعيش حتى أعرف.
عليَّ أن أمضي، أن أرحل عن هذه العلاقة، وأنا واثقة من أن الجواب عندي أنا وليس أي شخص اخر، أن أفهم من خلال ذاتي وليس من خلال علاقة. حتى لو كان في الطريق بعض الألم لنا معًا.

حين عدتُ إلى ذاتي

وكنتُ أنا من جديد، عُدتُ إلى ذاتي، بدأتُ أكتشفني من جديد، بدأتُ صناعة محتواي من جديد.
عدتُ إلى حيث كنتُ قبل أن ألتقيه، قبل أن أقترب منه. كنتُ بحاجة لأن أتنفّس من جديد، وكنتُ بحاجة لهذا الفراق كي أعود إلى نفسي.

وحين تركني، وحين كان معي... أعاد لي شغفي بالحياة.

كنتُ بحاجة إلى البُعد، كي أعود إلى ذاتي، إلى كينونتي، إلى ملاذي الآمن.
كنتُ بحاجة لأن أكون "أنا" من جديد.

Comments

Popular posts from this blog

مشروع الثالثة والعشرون - (15) أعرفه ولا أعرفه!

مشروع الثالثة والعشرون - (14) الغير مناسب في الوقت المناسب

مشروع الثالثة والعشرون - (9) أحلام شريف العشرينية