مشروع الثالثة والعشرون - (2) التردد
التردد
كم مرة ترددت في الكتابة عن نفسي، خوفًا من أن أتعرى أمام الذين أعرفهم، والغريب أنني لم أخف من الذين لا أعرفهم!
التردد هو تلك المرحلة التي تسبق كل الأشياء التي لم تجربها قط، متسائلًا: هل سأحب هذا حقًا أم سأندم على ما فعلت؟ الإجابة هي: أنك لن تعلم حقًا إلا إذا خضت التجربة. الإجابة ستكون بهذه البساطة إن أحببت ما قمت به، وبذاك القسوة إن لم تحب! بالطبع يمكن أن نندم، ولنا كامل الحق في ذلك. لكن أي الكفتين تحمل الندم الأكبر؟ على الأرجح، إن لم نخض التجربة الجديدة سنندم فيما بعد أننا لم نسمح لأنفسنا باكتشاف شيء جديد في هذا العالم. وصدقني نحن بحاجة إلى أن نكتشف؛ فالاكتشاف يحيينا ويشكلنا من جديد، ينير دروبنا، ويجعلنا نعرف من نحن. أعتقد بأننا سنندم إذا لم نصل إلى جوهرنا بعيدًا عن ما ورثناه من عادات وتقاليد، وسيرنا في الدروب المرسومة بدقة دون أن نحيد ولو مرة واحدة. فالإنسان بحاجة إلى أن يشذ عن المألوف قليلًا من الوقت حتى لا يجن من فرط القيود التي تعتري إنسانيته. ومن نحن حقًا إذا سرنا طوال الوقت على السيناريو المتوقع؟ ألن يكون ذلك فيلمًا مملًا؟ هل تحب أن ترى فيلمًا تعرف نهايته وتفاصيل أحداثه؟ أعتقد لا. لا أحب أن أرى المتوقع. أحب أن أرى الجريء، الثري، الذي يغذي روحي، عقلي وجسدي. الذي أقف أمامه مشدوهًا، شاعرًا بالنشوة إلى الحد الأقصى، الذي أكتشف معه جزءًا جديدًا من هذا العالم ومن نفسي.
في الثانية عشرة من عمري، كان يتم تحضير إذاعة الصف، والتي كانت حدثًا جليلًا كل عام في المنافسة وإظهار المواهب. وقرر أحد الأساتذة، الذي كان مسؤولًا عن إذاعة صفنا، أن يقدم فقرة لإلقاء الشعر، وبالفعل كان هو كاتب الكلمات التي كان يريد لأحد الطلاب أن يلقيها. كان هذا جزءًا مخفيًا لنا كطلاب "أن معلم الرياضيات يكتب الشعر"! ربما تردد هو أيضًا قبل إظهار هذا الجزء منه، ولكن في النهاية خاض التجربة. بالمناسبة، أتمنى أن يكون سعيدًا بذلك.
سألنا: من منكم يحب أن يلقي الشعر؟ فتقدمت فتاتان ولم أكن منهما بالطبع. وطلب منهما التمرن حتى يختار بينهما. أثناء ذلك الوقت، فكرت: لماذا لا أجرب وأنا التي تحب القراءة، إلقاء الشعر والمسرح! سألت ذاتي: ما حجم خسارتي؟ فكانت النتيجة صفرًا، فذهبت لأخسر اللاشيء وأكسب المحاولة. ذهبت إلى الأستاذ وطلبت أن أنضم، ووقع اختياره عليّ لأكون من يلقي كلماته.
جاء يوم اللقاء مع المدرسة بأكملها، لأفهم معنى جديدًا لم أكن أدركه، وهو (لا تحملني رجلي)! شعرت حينها أني لن أستطيع إكمال مهمتي، وربما سأخذل كاتب هذه الكلمات قبل أستاذي. كان يهتم لهذه الفقرة أكثر من الباقي، فكان جزءًا من أحلامه معلقًا معي. وهذا شيء جديد آخر فهمته ذاك اليوم، بأن بعض الأحلام لن تستطيع تحقيقها وحدك، قد تحتاج الغير وعليك أن تختار بعناية. ولذلك كان عليّ ألا أخذله ككاتب أولًا وكمعلم ثانيًا. صعدت إلى أعلى منصة الإذاعة أمام الآلاف: الأصغر، من بعمري، ومن هم يسبقونني. بيد حرة وأخرى تحمل الورقة التي دُوِنت عليها الكلمات، وركبتي لا تكاد تحملني، بدأت ألقي الكلمات بتوتر في أول بيتين وتحسن كبير فيما يلي، استطعت أن ألحظه حتى وثقت في ذاكرتي أن تنوب عن الورقة. بعد أن انتهيت شعرت بتحسن كبير، وانتصار أكبر على مخاوفي وحرية جديدة. شعرت أن جزءًا مني قد تحرر، وأنني أصبحت أقرب إلى ذاتي. ابتسمت وأنا أنزل من أعلى المنصة، لكن ابتسامتي انطفأت ما إن تذكرت أني لم أنسب الكلمات إلى صاحبها. قلت ذلك وهو يبتسم لي ويحييني على ما قمت به. فقال لي: لا يهم، المهم الكلمات وأداؤك الذي تفوقت فيه. فعُدت من جديد أبتسم إلى كاتب الكلمات وأستاذي صالح إبراهيم. أتمنى لو أنك ما زلت تكتب.. لك كل الشكر والكثير من الاحترام.
Comments
Post a Comment